زرت قريباً لي في مكتبه، وكان من بين الصور التي يعلقها صورة له أثناء تسلّمه شهادة تقدير من مدير المؤسسة التي يعمل بها، فلم أتمالك نفسي وسألته إن كانت هذه الصورة قد أخذت أثناء توقيع عقوبة تأديبية بحقه، وعما إذا كانت الشهادة التي يستلمها هي إنذار أو قرار بالفصل أو شيء من هذا القبيل، فتعجب من كلامي، فقلت له: إنك فرح بهذه الصورة التي تبدو فيها في قمة السعادة وأنت تصافح مديرك وتنظر في وجهه، بينما هو ينظر إلى الجهة الأخرى بوجه عابس ومنفوخ كأنه آلة "الهبّان".
أنزل قريبي الصورة وأخذ ينظر فيها ملياً، ويبدو أنه اقتنع بكلامي لكنه قال إن مديره كان في ذلك اليوم على طبيعته، فهو طيب ومنصف لكنه يقدّس الانضباط والصرامة والجديّة، كما أن عدد الذين شملهم التكريم كان كبيراً، وربما أصيب الرجل ببعض الإرهاق.
بالطبع هذا الكلام "ما يأكّل عيش" كما يقولون، إذ أن الموظفين ليسوا معنيين بطبائع المدير أو هوسه بالانضباط والصرامة والجديّة التي هي أولى بالقادة العسكريين وليس بمدير مؤسسة مدنية، على الأقل في أثناء حفل تكريم، خصوصاً إذا كانت المؤسسة حكومية والمدير العام مجرد موظف فيها، وليست مؤسسة خاصة مملوكة له.
كما أن إرهاقه لا يُعدّ مبرراً لعبوسه، إذ هو ليس ذنب أولئك الذين استعدوا للحفل منذ أيام وحضروا ليجنوا الثمار وينالوا التكريم الذي استحقوه على الجهد الذي بذلوه طيلة العام، على أمل أن يعودوا إلى بيوتهم بصورة تذكارية لائقة. وإذا كان وجه المدير يتقطّر عبوساً في أجمل الأوقات، وفي ساعة التكريم، فكيف به في الاجتماعات وفي الساعات العصيبة وعند الأزمات وزحمة العمل؟
وليت الأمر اقتصر على سوء التعامل مع الموظفين، إذ هناك مديرون ومسؤولون يسيئون لأفراد الجمهور ويؤذون الشعور العام بتصرفاتهم وتصريحاتهم المستفزة، كمن يغلق الهاتف في وجه البث المباشر، وهو من باب أولى يفعل أكثر من ذلك في مؤسسته بعيداً عن عيون الإعلام.
وهناك من يخرج في الجرائد ويقول كلاماً ينم عن استهتار بأرواح أشخاص قضوا بسبب إهمال من المؤسسة التي يديرها، بدلاً من أن يقدّم واجب العزاء لأسر الضحايا ويعدهم بأي شيء يجبر خواطرهم، كتشكيل لجنة تحقيق مثلاً.
وهناك من يسخر من مطالب الجمهور ويرد عليها على الهواء مباشرة باستخفاف أو بعصبية، ومن يرد بنبرة متعالية على مجموعة سجناء طالبوا بكذا وكذا بأنهم ليسوا في نزهة وإنما في السجن، وكان بإمكانه الاكتفاء بالقول إن هذه هي اللوائح ولا يمكن تلبية مطالب السجناء، إذ يكفي السجين أن حريته مقيّدة، وأنه بعيد عن أهله وناسه، ولا يحتاج إلى من يذكّره بأنه ليس في نزهة.
في الدول المتحضّرة يسارع المسؤول الذي يخطئ، أو تخطئ المؤسسة التي يديرها، إلى تقديم استقالته، أو تقديم اعتذار أمام الملأ، وبعضهم لا يستطيع تحمل الشعور بالذنب فيُقدم على الانتحار.
وبالطبع نحن لا نمتلك ثقافة الاعتذار، ولا ثقافة الاستقالة بسبب الأخطاء، لكن مثلما هناك دورات تعطى للموظفين في فن التعامل مع الجمهور، فمن المهم أن تعطى دورات مشابهة للمديرين، إذ لم أسمع عن مديرين التحقوا بدورة تعليم فن التعامل مع الموظفين وفن التعامل مع الجمهور.
ليس من المقبول أن يكرّم مدير الموظفين من دون أن يكلّف نفسه عناء النظر في وجوههم أو حتى إزالة "التكشيرة" لدواعي التصوير، كما أن الإدارة ليست مشاريع وتطويراً واجتماعات وحسب، وإنما يضاف إليها اختيار التصريحات بعناية، والظهور أمام الملأ بتواضع وبكلام ودي وببعض اللباقة.